حبيب الروح مدير
عدد المساهمات : 119 تاريخ التسجيل : 02/08/2010 الموقع : منتديات سهر الليالي
| موضوع: دموع بين السطور للاستاذ ابو هيثم الإثنين سبتمبر 20 2010, 15:09 | |
| دموع بين السّطور الجزء الاول جلس صديقي يوما إليّ ،وراح يروي حكاية غرامه ، وهو كلّه جراح تنزف آلاما وآهات .. جراح أعيت من يداويها ، لم تترك منه إلاكومة عظام محطمة ، ونفسا معذّبة غادرتها الطمأنينة والسّكينة ،وأظلتها سحب من الحزن والأسى ، فأظلمت بعد ضياء واستوحشت بعد انس .
ختم حكايته عن حبيبته التي شاءت الأقدار أن تكون من نصيب غيره بسبب لحظة ضعف منه أمام سلطة والديه الجبّارة الرافضة لهذه العلاقة ثمّ أرسل تنهيدة طويلة وحارة تعبر عما يجيش في نفسه من حسرة وألم خلت أنّ روحه ستخرج معها وقال ودموعه تسيل على وجنتيه : << هي ذي حكايتي قد رويتها لك ،حكاية تناولت بين طيّاتها مسيرة حب حافلة باآلام والمآسي جمعت بين مخلوقين أحدهما كان في صورة ملاك طاهر يفيض قلبه محبة وإخلاصا ووفاء ،والآخر كان شيطانا في صورة ملاك وأنا هو ذاك الشيطان الذي طرد من رحاب جنته بما جناه على نفسه من سوء افعاله فقد نكثت العهود وأخلفت الوعود وأظهرت الجحود وكذبت حيث لا يجب الكذب . آه يا صديقي لولا جبني وضعفي ما وصلت إلى هذه الحالة المزرية ولكنت اليوم مع ملاكي الطاهر نعيش في خير وعافية ولما عرفت نفسي طعما للبؤس والحرمان والنّدم .. >>.
مواسات المحبين ، والتّخفيف من لوعة العاشقين لم تكن يوما وليدة الشّفقة والرّأفة ،ولا هي تكمن في المال والجاه . وإنّما هي تكمن فيما تقوم به الأرواح وتتبادله الأفئدة التي أضناها الهيام ،وأسقمها الحنين ،وأرقها طول السّهر ، وأفنتها الأشواق ، هذه الأرواح المعذّبة التي عاشت مآسي الهوى وتلك الأفئدة المحترقة بنار الأشواق والحنين هي الوحيدة التي بإمكانها إدراك معانات هذه النّخبة الرّقية و القادرة على مواساتهاوالتخفيف من حدّة آلامها ،وتفهّم أوضاعها ،من حيث أنّهاعرفت الحقيقة وعاشتها بدقائقها ، وبتفاصيلها وحقائقها . فقلت له :<< لقد فتقت يا صديقي بأحاديثك في نفسي جراحا خلت أنّها اندملت والتأمت بمرور الأيّام ، وتعاقب السّنين ، ولكن هيهات أن تمحو الأيّام ما كانت قد حفرته في الماضي ونقشته على صفحة قلبي.. أحاديثك تذكّرني بماض طالما حاولت محوه من ذاكرتي .. تذكّرني بماض أخاف منه ومن تذكّره ، أكثر من خوفي على حاضري.. على مستقبلي ولكن أيّ حاضر هذا .. وأيّ مستقبل بعد أن فقدت كل شيء .. وانهار كل ما نيته وشيّدته من آمال وأحلام .. لقد حدث لك يا صديقي نفس الذي حدث لي .. فحكايتك وحكايتي خرجتا من مشكاة واحدة .. فأنا ما زلت أذكر تلك التي فتحت لها قلبي ، فاتخذته مسكنا لها ،وملاذا تلجأ إليه كلّما دعا إلى ذلك داع .. وبقينا على ذلك ردحا من الدهر لا يكدّر رغد عيشنا مكدّر ،ولا يعكّر صفو هنائنا معكّر ،غير مكترثين لحسد حاسد أو وشاية واش ،عشنا أحلى ساعات عمرنا -أنا وهو - كان لنا في كلّ يوم مواعيد وفي كلّ موعد جديد ، لا همّ لنا إلا رعاية وحماية براعم حبّنا الذي زرعناه وسقيناه بأشواقنا وحنيننا ، بآلامنا وآهاتنا ، بدموعنا وعذابنا ، بعيون ساهرة وقلوب منتظرة ومترقبة مجيء اليوم الذّي تتفتّح فيه هذه البراعم عن زهرة شذيّة عطرة .. وتفتّحت الزّهرة ، وبتفتّحها انفتحت جراحي وأقبلت أيّام شقائي ولوعتي .. وولت أيّام ربيعي الباسمة وحلّت أيّام خريفي الحزينة .. ذلك أنّ يدا ظالمة امتدت إلى زهرتي المحبوبة لتقتلعها وما درت أنها باقتلاعها ستقتلع روحي ، وتدمّر كياني ، يد غاشمة أرادت أن تجعل زهرتي داخل مزهريّة ذهبيّة وما درت أنّ جمال الزّهرة لا يكون إلا في موطنها الذي نشأت فيه وترعرعت بين جنباته .
كان ذلك في أحد الأيام بعد أن غادرت المدينة إلى إحدى المدن البعيدة ، لأتسلّم وظيفتي ككاتب في دار البلدية . وأمام الظروف الصعبة التي كانت تجتاح أسرتي لم أستطع التخلّي عن هذا المنصب ، فغادرت المدينة بجسمي مخلّفا روحي هناك عند الذين لانستطيع أن نفارقهم طرفة عين -عند الأحبة -عندمن لا نرضى عن بعدهم بدلا . ومضت الأيّام سراعا ، وتعاقبت الشهور ، وأنا في كلّ يوم أزداد تلهفا وشوقا ، وهياما وحنينا لزهرتي المحبوبة الطيّبة الزّكيّة . وجاءتني رسالتها .. وجاءت معها الدّاهية العظمى التي لم أحسب لها حسابا والتي قصمت ظهري وذهبت بكلّ ما أبقاه الهيام في جسدي و روحي وما لم يبقيه . وأعدت قراءتها ثانية وثالثة ، وأناعلى أشدّ ما أكون من الإرتباك والإضطراب .. وسرت الرّعدة في أوصالي ، وأظلمت الدّنيا أمامي وخانتني قدماي فما عدت أستطيع الوقوف .. هل تدري ياصديقي ماذا جاء في رسالتها ؟ هاك نصّ رسالتها مازال محفورا على صفحة قلبي فاسمعه: << ........إلى حبيب الروح والقلب ........ أكتب إليك بيد مرتعشة ونفس مضطربة ، وفكر مشتّت . أكتب إليك والدّموع تسابق القلم لتبلّل الورق وتمحو ما كتبته من حروف ..وهل هناك من دواء يرفع عنّي ما أعانيه من ضرّ إلاّ الدموع ..؟ هل هناك من كاشف يكشف عنّي أحزاني وآلامي إلاّ الدموع..؟ كيف لا أعاني مما أعانيه وأهلي يريدون عزلي وإبعادي عمن عقدت مصيري بمصيره عن الذي أهديت له روحي .. وحبّي .. وكلّ ما أملك، وأزمعت أمري على أن لا أكون إلاّ له وله فقط .. آه يا حبيبي لو تعلم ، لقد خطبت إلى رجل لا تربطني به أية صلة مودّة أو قرابة .. رجل لا أعرف عنه إلا أنه من أسرة ّذات مال وجاه .. رفضت هذا الشّاب ولكن أهلي لم يشفقوا عليّ ولا رحموا ضعفي أو اكترثوا لدموعي التي سكبتها ، وآلامي التي أبديتها ، وأصروا على إتمام هذه الزّيجة المشؤومة.. وهكذا تمت الخطبة وقرئت الفاتحة ، وسأزف إلى هذا الرجل بعد شهر بدء من تاريخ كتابة هذه الرسالة التي بين يديك .فانظر ماذا أنت فاعل ؟ وعجّل بالعودة لتلافي هذا الخطب قبل حلول العطب. أقسمت عليك بحبنا الطّاهر واستحلفتك بما لي في قلبك من معزّة إلاّ ما أسرعت لنجدتي وإنقاذي من بين أيادي الفوم الظالمين .. ...........حبيبتك الوفية...............>> . لم يكن ياصديقي في استطاعتي أن أفعل شيئا ، أو أن أقوم بأدنى حركة لإيجاد حلّ لهذه المشكلة والخروج من هذه المصيبة التي وقعت على رأسي .. فأنا أعرف أن والدي لا يرضى أبدا بالموافقة على زواجي منها بسبب ما تفرضه قيود العادات والتقاليد التي لا تزال مغروسة في نفسه ..قوانين أسرتي ترى زواج الشاب خارج نطاق الأهل والعشيرة بمثابة عقوق وخروج صارخ عن طاعة الوالدين وعن النظام الأسري . أمام هذا النظام الجائر والقانون المستبد،وقفت مكتوف الأيدي لا أبدي حراكا ولا أنبس ببنت شفة وكأنّ على رأسي الطير .. وانتظرت أرقب الأيّام عساها تفعل شيئا وتخلّصني مما أنا فيه، ولكنّها خيّبت ظنّي،وأثبتت جبني وضعفي وعرّفتني أنها للنّاس كافّة وليست ملكا لأحد ، وأنّ الشجاع هو من تدبّر أمره بيده وبنفس لا تعرف الخوف والتّردّد .. ومضت الأيّام مسرعة وكأنّها تسخر منّي وتريد أن تفوّت عليّ فرصة القيّام بشيء ما ، وأنا في كلّ يوم أزداد عذابا وهمّا حتى أقبل اليوم الموعود اليوم الذي قصم كاهلي . في هذا اليوم لم أغادر غرفتي ولم أذق طعما للرّاحة واكتفيت عن الطعام ببعض الجرعات من الماء ،وأنا أتصور أحداث هذا اليوم في مخيّلتي ،وأخصص لكلّ فترة زمنية صورة تناسبها . وبدأت مراحل العرس تمرّ أمامي وكأنّها شريط سينمائي : أهل العريس متواجدون ببيت العروس الذي ملأت أنحاءه دقات الطبول وزغاريد العذارى وضحكاتهن الملائكية ، ورقصاتهن المثيرة التي تنبعث منها مظاهر الشّباب والحيويّة، والدفء والحرارة ،وعيونهنّ لا تفتر عن مراقبة العروس وألسنتهنّ لا تكفّ عن تهنئتها ومدح جمالها وهي بينهنّ قد تصدرت القاعة وقد اكتست بالحلي والحلل وهي تكاد تذوب حياء وحشمة ، وقد تورّدت وجنتاها من شدّة الخجل و أفرجت قليلا عن شفتين رقيقتين لمعت من بينهما أسنان كأنها الدر المنثور ، بينما انسدل شعرها الأسود الناعم على كتفيها وكأنه قطعة من ليل بهيم ، شقّه وجه مشرق وضاح كأنه البدر ليلة التمام .وكأنّ الشاعر كان ينظر إليها عندما قال : رأيت الهلال ووجه الحبيب ............ كأنّ هلالين عند النّظر فلم أدر من حيرتي فيهما ......هلال الدّجى من هلال البشر ولولا التّورد في الوجنتين ......وما راعني من سواد الشعر لكنت أظن الهلال الحبيب ......وكنت أظن الحبيب القمر وجاء منتصف النهار ، وبدأت موائد الطّعام تقدّم للمدعوين والكلّ في فرح وحبور وكأنّه هو العريس .وما أن رفعت المواعد حتى استقلوا سياراتهم ، بينما أفردت سيّارة للعروس التي أخرجت تتهادى في مشيتها ،وقد أمسكت بيدها إحدى الفتيات حتى أدخلت السّيّارة وركب معها بعض أهلها، ثمّ انطلقت السيّارات تجوب شوارع المدينة مرسلة أصوات منبّهاتها التي راحت تنبعث لتملأ الفضاء صخبا وضجيجا .. وسارت هذه القافلة تحمل أجمل وجه عرفه النّاس وأطيب قلب عرفه الحبّ ،وتمثّلت بقول الشاعر : قفي ودّعينا قبل وشك التّفرق فما أنا من يحيا إلى حين نلتقي قضيت وما أودى الحِمَام بمهجتي وشبت وما حلّ البياض بمفرقي وهكذا واصلت هذه القافلة رجلتها حتى بيت العريس حيث أنزلت والأنظار تتبعها وتكاد تتخطفها حتى أدخلت إلى قاعة واسعة أعدّت خصيصا لها ، وقد أفرشت بأجمل المفروشات ونثرت على أرضيّتها أطيب الأزهار والورود و عبقت فيها أجمل روائح المسك والعطور ، وزيّنت بأحسن الصّور والتماثيل . وبدأت الحفلة من جديد وامتدت بدون انقطاع حتى حان الوقت الذي لابدّ للعروس من مغادرتهم فيه والذهاب إلى غرفتها التي أعدت لها . فأقبلت أمها حتى اقتربت منها ثمّ انحنت عليها قليلا وأسرّت لها ببعض الكلمات ،ثمّ مدّت إليها بيدها كأنها تدعوها للنهوض ،فقامت مستسلمة لا تبدي رفضا أواعتراضا ،وسارت بجانب أمها وأمّ العريس توسّع لهما الطريق . وأصوات قرع الدفوف والزغاريد تملأ أذنيها حتى أدخلت إلى غرفتها وقبعت في مخدعها وقد عزّ عليها فراق الأهل والإخوان والرحيل عن الدّيّار .. وبدأت الدموع تنهمر على خديهاالحمراوين في صمت وخشوع .. فاقتربت منها أمها وكأنها كانت تنتظر منها ذلك وضمّتها إلى صدرها برفق وحنان ثمّ قبلتها وقامت تريد الباب ونظرها لا ينقطع عن ابنتها و الإبتسامة لا تفارق شفتيها حتى خرجت من الغرفة ثم مدّت يدها إلى الباب وأغلقته ومضت لحال سبيلها. اما أنا فقد قضيت ليلة ليلاء،تجرّعت فيها كؤوسا من الحنظل وضاقت عليّ الدّنيا بما رحبت ,أرى الموت أهون عليّ مما أنا فيه من ضيق وحسرة وندم وكرب عظيم ..
ومرّت أيّام وتلتها شهور وشهور ، وجاءتني رسالتها تقول فيها: <<...........حبّي الضائع.............. أكتب إليك ,وأنا أعرف أنّك تكابد من عذاب البعاد ومرّالفراق الشيء الكثير ، ولكأني بقلبك يعتصر ألما ومرارة و بعيون عينيك قد جفّت ونضبت وبخلت بدموع طالما هدّأت من حرارة الأشواق ومرارة الفراق وفرحة اللّقاء .. وكأنّي بتلك الإبتسامة العذبة قد فارقت شفتيك وسافرت بعيدا تسابق الزمن وتخترق حجب الظلمات تشكو تقلّبات الزمان وظلم الإنسان . إنّني لأشمّ رائحة كبدك المحترقة وأحسّ بأنفاسك الملتهبة من بعيد ..آه ويل قلبي ماذا دهاني .. ؟ ماذا اعتراني .. ؟ ماذا جنيت عليك وعلى نفسي .. ؟ كيف يقرّ قراري ويطيب عيشي ويرتاح بالي من بعدك وقد ذبحتك بيدي ثمّ رحت لوقاحتي أبكيك ..؟ ليتني متّ قبل هذا اليوم .. بل ليتني متّ يوم ولدت وكنت نسيا منسيا رفقا .. رفقا بنفسك وصبرا جميلا ، لا تهلك روحك همّا وكمدا فتقتلني من حيث لا تدري ، واذكر دائما أنّ هناك من يحبك ويخاف عليك .. لا تبعدني عن جناك المعلّل ولا توصد باب قلبك عنّي فقلبك هو قصري الذي ألفت العيش فيه والسعي بين أرجاءه ، سأجري بين جنباته ، سأزرع بذرة و أغرس زهرة سأرسل بسمة و أشعل شمعة تنير دربك و تؤنس وحشتك وتطرد عتمة قلبك .. إن شئت البحث عنّي فستجدني بين حناياك وفي سويداء فلبك أنا متواجدة في كلّ جارحة من جوارحك وفي كلّ نفس من أنفاسك ونبضة من نبضات قلبك سأكون معك وعلى مقربة منك حيثما نزلت وحللت ، فقط اذكرني ولا تنساني . شهد الله أنني ما قصدت خيانة زوجي أو الغدر به فقد ألجم الدّين جماح أهوائنا أما قلوبنا فما باليد حيلة وما قدر الله كان ، ومع ذلك فأنا أحبّك .. أحبّ فيك روحك الطّاهرة .. وأخلاقك الفاضلة .. لأ تظنّ أنّني تخليت عنك وخنتك .. أو حتى فكّرت يوما في ذلك ، وإنما مردّ ذلك يعود إليك وأنت أعلم به منّي ، وقد راسلتك أطلب نجدتك فتقاعست وكان الذي كان . آه .. ويل قلبي ما أضعفه أمامك ..وما أرهفه عند سماعه لنبرات صوتك وما أسرع نبضاته عند اقتراب موعد لقائك.. آه .. من الحبّ ما أحلاه وما أمرّه .. بل ما أحلى عذابه وأعذبه إذ لولا عذابه ما استمتع المحبّون بعذوبته وثمل العشّاق من خمرته . اعلم أنّني سأكون سعيدة طالما كنت سعيدا ، سأفرح لفرحك وأحزن لحزنك وأطير فرحا كلّما علمت أنّك على مقربة منّي رغم أنّ يدي قاصرة عن مداعبة شعرك أو إغماض عينيك أو إيصال زهرة جميلة قد تعبّر عمّا عجز لساني عن النّطق به و التّعبير عنه ، زهرة قد تخبرك كيف أموت وأبعث جراء هواك في اليوم عشرات المرّات. وختاما اعلم أنّ هذه هي آخر رسالة أبعث بها إليك ، وعسى الله أن يجمعنا في الدّار الآخرة بعد أن فرّق بيننا في هذه الدّار الفانية .. الوداع .. الوداع يا أحبّ النّاس إلى قلبي .. واليرعاك الله ويحرسك لمن تهواك .. ................الباقية على العهد.............>>
ما أن أتيت على نهاية رسالتها حتى بدأت الدموع تنزل من عيني مدرارا ، وبدأ شبحها يظهر لي من بين أسطر الورقة ،من يوم تعارفنا إلى هذه اللحظة .. رأيتها وهي تجري بفستانها الأخضر بين أشجار الصنوبر والنسيم يداعب شعرها الحريري الناعم ،وضحكاتها ترن في الفضاء الرّحب ،وأنا أجري من وراءها محاولا الإمساك بها .. رأيتها وهي جالسة بقرب من الساقية وقد أدلت برجليها داخل السّاقية وقد رفعت فستانها عن ساقين عاجيتين وراحت تضرب برجليها صفحة الماء الزرقاء ، وهو يتطاير في الفضاء وعلى ثيابي محاولة إغاضتي ومداعبتي ..رأيتها و رأيتها .. ولكن لم أدم طويلا في ذهولي وعدت إلى الواقع المرير وفكّرت فيها وفي نفسي ،وعرفت أنّها قد أصبحت في عصمة رجل آخر وليس لي في الوصول إليها من سبيل كما أنّه لا يمكن أن تظلّ علاقتنا على ما هي عليه فقرّرت أن أكتب لها رسالة تكون خاتمة الرسائل وفعلا كتبنهاوهذا نصّها
<<إلى التي سرقت قلبي وأسرت عقلي ...
أكتب إليك وأنا أعاني من آلام البعاد ومرّ الفراق ما لا قبل لمخلوق بتحمله .. أكتب إليك وعبراتي سابق عباراتي و النّدم يأكل قلبي ويقضّ مضجعي كنت عندما أكتب إليك أشعر بك وكأنّك بجانبي أنظر إلى عينيك لأنتقي منهما أسمى عبارات الجبّ ومعاني الوجد .أما اليوم فأنا أراك بعيدة عنّي بعد الثرى عن الثريا ، الأفكار تفر من ذهني ، وأحس كأنّني أخاطب إنسانا غريبا عني لاتربطني به أية صلة جمعتني به الصّدف ثم مالبثت أن فرقت بيننا ..كلّ شيء فيّ تغيّر تبدّدت آمالي و ضاعت أحلامي ..تهدّم جسمي وتوتّرت أعصابي .. غير شيء واحد لم يتغير ولم يتأثّر بما اعتراه من نكبات وصدمات ذاك هو حبّي الكبير لك ولكن يا زهرتي المحبوبة أنا اليوم لا أملك قلبا شجاعا كقلب الأمس أنا اليوم أشعر بأنّني أضعف مخلوق أوجد على سطح هذا الكون الشاسع . حبّي لك يفرض عليّّ أن أبتعد عن طريقك حتى لا أكون حجرة عثرة في طريق سعادتك فأنا أغار عليك من النّسمات وهي تداعب شعرك الذّهبيّ ومن خيوط أشعة الشمس المتساقطة على قسمات وجهك الوضاح ومن ملابسك وهي تلامس جسمك وإن شئت فقولي أنا أغار منك عليك ، فكيف بي لا سمح الله وأنا أرى أصابع الإتهام تشير إلى أعزّ مخلوق على قلبي محاولة النّيل منه .. ؟ | وختاما تقبّلي منّي آخر رسالة محمّلة بأسمى عبارات الشّكر والثّناء والإعتذار عن كلّ ما بدر منّي حيالك ، وعن كلّ ما سبّبته لك من آلام وجراح .. الوداع .. الوداع ياتوأم روحي .. الوداع يا من علّمتني كيف أحبّ الدّنيا وأشارك أهلها وجدانهم وشعورهم و كيف يسمو القلب غن طويق الحبّ إلى العلا .. الوداع يا من علّمتني كيف أشفق على الآخرين . الوداع يا من علّمتني أبجديّة الحبّ حتى صرت فيه معلّما وشرحت لي معانيه فصرت في صومعته متعبّدا أحببتك بالأمس وأنت قريبة مني ، وأحبّك اليوم وأنت بعيدة عنّي ..وحسبي من كلّ هذا أنّني أحبّ .. وبالحبّ أعيش وأحيا وعليه أموت وأفنى .. دمت لمن يهواك و يذوب في هواك .. .............المقيم على العهد..............>>
ما أن أتيت على نهاية هذه الرسالة حتى شعرت وكأنّني خلعت قلبي وكبدي وجعلتهما بين أسطرها وشرعت الدّموع تنسكب على الورقة ،وحاولت حبسها فلم أستطع فتركتها تنسكب على سجيّتها تبكي ماض راحل وحاضر نازل .
صديقي وأخي هذه هي مجمل قصّتي قد ذكرتها لك حتى تعرف أنّك لست أوّل إنسان سخرت منه الأيام وجعلت سعادته شقاء وضحكاته بكاء ، ولا آخرشخص سلبت منه حبيبه ، ومع ذلك فنوائب الدّهر عاجزة تمام العجز على أن تمسّ الحبّ وإن مسّت ألأحبّة . وكلّ ما أستطيع مواساتك به هو أن تصبر على ما أصابك وحسبك من الحبّ أنّك تحبّ وأنت علم بمن تحبّ ولا يهمّ كيف تحبّ . فاسترسل صاحبي في نحيبه ونشيجه ، ثمّ قال بعد ما عادت إليه رباطة جأشه وهدأت نفسه وسكنت : <<لا تعجب لما قد بدر منّي ، فأنا أبكي والله من مصابك ومصاب صاحبتك هذه.. ليتني كنت الفداء في سبيل جمعكما ولمّ شملكما تحت سقف واحد ووضع أيديكما بأيدي بعض .. آه رحماك ربّي بالعاشقين .. لقد أنستني فاجعتكما مصابي وما كان جاثما من همّ وغمّ على صدري واساكما الله كما واسيتني وخفّفت عنّي .. >> .
من النّاس من حاربتهم الأقدار وأحنى عليهم الدّهر بكلكله وعركهم كعرك الرحى بثفالها فما لانوا ولا انهزموا وما زادهم ذلك إلاّ تشبّثا بالحياة وحزما وعزما على مواصلة طريقهم قدما إلى الأمام ذلك أنّ لهم قلوبا تشعّ نقاء وصفاء صهرت في بوتقة الطّهر وغمست في يمّ العفّة ثمّ أخرجت صافية خالصة كسبيكة الذّهب لا تشوبها شائبة ولا يعلوها صدأ تفيض محبّة ومودّة ، ورحمة . قوم إذا أحبّوا أحبّوا بصدق وإذا بكوا بكوا بصدق ، تراهم يعطون ولا يأخذون ويضحّون بأنفسهم في سبيل إسعاد أحبّتهم ، ولا عجب في ذلك فهي أرواح أحبّت أرواحا فاستكن الفؤاد المتيّم بذلك واستراح . فطوبى لقوم هي ذي سيماهم وشيمهم .
ومن الناس من هم اقرب الى الحمر منهم إلى البشر ، قوم تحجرت قلوبهم وقست كجلمود الصخر و خبثت سرائرهم فلا الدّين قوّم اعوجاجهم ولا الحياء ردأهم عن سوء أفعالهم ،لكأنّ وجوههم صقلت من صفائح الزّنك أو النّحاس.أفئدتهم خالية من المشاعر والأحاسيس لم تدغدغها لمسات الحبّ السحريّة ولا حرّكتها نسماته اللطيفة ألا هم البؤساء التعساء ولكنّهم لا يشعرون . شياطين في جلود بشر إذا أحبّوا كان حبّهم أقرب إلى حبّ الحمير أو الخنازير -إن كان لهما حبّ - فما كتموا أمرهم ولا ستروا غيرهم ، وشاعت أخبارهم وتناولتها الألسن وراجت في الشوارع والمقاهي وتناقلتها الرّكبان وسمع بها القاصي والدّاني ، ففضحوا أنفسهم وظلموا أحبتهم ألا هم الأنجاس المناكيد ولكنّهم لا يعلمون..سخّم الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه .
عزيزي القاريء هكذا انتهت قصتنا فلا عجب إن بكيتها فقد بكيناها قبلك ورحلنا معها بعيدا وعشنا كلّ لحظة من لحظاتها الدّمية بجوارحنا ومشاعرنا . واعلم أنّه مازال على ظهر كوكبنا المئات إن لم نقل الآلاف ممن أنعم الله عليهم بالحبّ الطّاهر فصانوا أنفسهم وكتموا أسرارهم وراقبوا الله في أنفسهم فاستحقوا أن يكونوا أهلا لهذا الحبّ الشريف . عزيزي القاريء هناك شيء لم أتعرض له بالذكر في هذه القصّة ألا وهو كيف يعيش بطل وبطلة قصّتنا هذه حياتهما بعد كل ما حدث فهناك الكثير من التساؤلات قد تخطر على بال القاريء كأن نقول مثل هل تمّ بينهما لقاء او مراسلات؟ هل دارت بينهما مكالمات على الهاتف او المبايل... أما أنا فأعرف عنهما كلّ شيء حتى لحظة كتابتي لهذه الأسطر وقد ألزمت نفسي عدم الخوض في هذه المسألة إلا في حالة ما إذا طلب منّي القراء مدّهم بمعلومات عن بطلي هذه القصّة. إلى اللقاء أنا في انتظار طلباتكم...
................... الجزء الثّاني ..................
تركنا بطل قصّتنا بعد أن كتب رسالة الوداع الأخيرة والتي أفرغ
فيها كلّما انطوت عليه جوانحه من حبّ فيّاض وأحاسيس جيّاشة
وحمّلها كلّ أحزانه ومآسيه ، وهمومه وآلامه . ففي هذا اليوم عاد إلى غرفته باكرا على غير عادته كاسف البال مكلوم الفؤاد يود ّلو أنّه خرج من جلده لما كان يحسّ به من الشّعور بالذّنب و تأنيب الضّمير وجلس على سريره جلوس القانط المتهالك ثمّ مدّ يده إلى كتاب كان هناك بجانبه على طاولة صغيرة ففتحه وأخرج منه رسالتها الأخيرة وشرع في قراءتها وكأنّه يقرؤها للمرّة الأولى ، وأعاد قراءتها مرّة ثانية وثالثة وكلّما وصل إلى قولها : <<ولقد بعثت إليك أطلب نجدتك فتقاعست وكان الذي كان..>>تأوّه بشدّة . وكانت رسالتها مفتوحة على راحتي كفّيه فمال عليها بصفحة وجهه لثما وتقبيلا وهو بين خنين ونشيج وبكاء ،ويقول بصوت يذيب الحجر : << واحبيبتاه .. كيف سأعيش من بَعدك .. ؟ بل كيف يرتاح بالي وقد خيّبت ظنّك ، وخنت ثقتك يوم تخلّيت عنك .. ؟>> ولا زال كذلك يندب حظّه العاثر حتّى نال منه الجهد والتّعب منالا عظيما ، وكاد يشرف على الهلاك وأحسّ بصداع شديد وارتفاع في درجة حرارة جسمه ، وقد احمرّت عيناه من كثرة البكاء فتمدّد على سريره ووضع الرّسالة على قلبه وضغط عليها بكلتا يديه وعانقها عناقا طويلا، وأخذته عينه و غاص في حلم طويل .. أشرقت شمس يوم جديد ، وهرع النّاس إلى أعمالهم والسّعي في طلب أرزاقهم . فحاول النّهوض للإلتحاق بعمله ولكنّه لم يقدر على مغادرة فراشه وأحسّ بدوار شديد فبقي في فراشه يئنّ ويتوجّع . وعند منتصف النّهار سمع طرقا على الباب ، وتكرّر الطّرق وسمع صوتا يناديه فعرف من خلاله أنّه صديقه مصطفى وزميله الذي يعمل معه في نفس المكتب فحاول النّهوض ،وأجهد نفسه محاولا الوصول إلى الباب ليفتحه ، ولكنّه عبثا استطاع الوصول إليه ، وخانته قدماه فوقع على الأرض واصطدم رأسه بالجدار . سمع مصطفى حركة غير عادية داخل الغرفة وبلغ أذنيه صوت ارتطام شيءثقيل بالأرض ، فبدأ يطرف الباب بكلتا يديه و هو يصرخ ويصيح بأعلى صوته ، فلم يجبه ، و عوّل على كسر الباب وفتحه بالقوّة، وشرع يرفسه بقدميه بكلّ ما أوتي من قوّة حتى فتحه ، وإذ به يجد صديقه عبد المجيد ممدّدا على الأرض والدّم يسيل من جبينه وقد أغمي عليه. و كان الجيران قد سمعوا هذه الضّجة وما صاحبها من صيّاح وصراخ وكسر للباب ، فأسرعوا إلى غرفة عبد المجيد فوجدوه في حالة يرثى لها ، فتعاونوا على حمله و وضعوه على سريره ، بينما أحضر أحدهم قارورة ماء وأخذ يبلّل رأسه و يمسح وجهه ، ثم ّنظّفوا جرحه و عصبوا جبينه بقطعة قماش ، ففتح عينيه و شكرهم على موقفهم منه . أما صديقه مصطفى فخرج مسرعا و لم يلبث إلاّ قليلا حتى عاد يصحبه طبيب ، ففحصه وعاين جسمه و جسّ نبضه و طهّر جرحه و ضمّده ، ثمّ كتب و صفة الدّواء و طمأن الجميع على سلامته ، و أمرهم أن يقدّموا له الدّواء في الأوقات المحدّدة كما شدّد عليهم في أن يوفّروا له الرّاحة الكاملة و الهدوء التّام حتى يستعيد عافيّته ، ثمّ انصرف شاكرا و شيّعه مصطفى و أجزل له في العطاء . انصرف الجيران إلى حال سبيلهم بينما جلس مصطفى بقربه على السّرير والفرحة بادية على و جهه وقال : <<الحمد لله على سلامتك .. أنت الآن في أحسن حال . لقد افتقدتك اليوم يا أخي إذ لم تلتحق بعملك و شعرت في قرارة نفسي أنّ هناك مكروها قد أصابك لأنّك لو كنت قد سافرت أو ذهبت إلى مكان ما لأعلمتني عن ذلك كسابق عهدك و أوصيتني بالإعتناء بغرفتك، و لهذا أسرعت إليك لأقف على أخبارك ، فوجدتك على تلك الحالة المزرية ، الحمد للّه انّني و صلت إليك في الوقت المناسب >> . كان عبد المجيد قد شعر ببعض التحسّن فشكر صديقه و أثنى عليه و طلب منه أن يحضر له سيّارة تقلّه إلى أهله ، فأراد أن يثنيه عن عزمه و طلب منه أن يتريّث بضعة أيّام حتّى تعود إليه عافيّته و يتحسّن قليلا و لكنّه أصرّ على الذهاب إلى مسقط رأسه. و أمام إصراره لم يجد مصطفى بدا من تنفيذ أوامره ، فجمع ملابس صديقه و دفاتره و وضعها في الحقائب ثمّ أسرع إلى الشّارع لإحضار سيّارة ، و ما هي إلا لحظات قصيرة حتّى كانا خارج المدينة يشقّان طريقهما حيث الأهل و الخلاّن . كان مصطفى لا ينفكّ يجسّ نبضه و يلمس جبينه الذي راح يتصبّب عرقا و قد زادت حرارة الطّقس و أشعّة الشّمس المتسلّلة من خلال زجاج نوافذ السيّارة من ارتفاع درجة حرارة جسمه ، فأخرج منديله و بلّله بالماء و بدأ يمسح به وجهه حينا و يضعه على جبينه حينا آخر ثمّ يعود ليبلّله بالماء تارة أخرى كلّما جفّ ، و قد تملّكه الخوف و خشي أن يهلك بين يديه في الطّريق قبل أن يصل إلى أهله و ذويه، و مازال كذلك حتّى أشرفوا على المدينة و أوقف السائق السيّارة أمام باب المنزل . وكان مصطفى يعرفه فقد سبق له أن زاره عدّة مرّات ،فنزل من السيّارة و طرق الباب و عاد مسرعا وكان السّائق قد فتح باب السيّارة في نفسي الوقت الذي فُتح فيه باب المنزل وأطلّ منه أحد إخوة عبد المجيد ،وكان مصطفى يعرفه فأومأ إليه أن يسرع ليساعده في نقل أخيه إلى داخل المنزل فأسرع وقد تملّكه الرّعب على أخيه فقال له مصطفى :<<هدئ من روعك فلا خوف عليه .. فقد أصبح مريضا نهار اليوم وقد أحضرنا له طبيبا فطمأننا عليه ،ولكنّه أبى أن يبقى هناك وطلب مني أن أنقله إليكم >>. تعاونا على حمله حتى أدخلاه غرفته ووضعاه على سريره ، وكان أن سمع كلّ من كان في الدّار بالخبر ، فأسرع الجميع إليه وهم في همّ و هلع عظيم .أما والده الحاج منصور فبعث في إحضار طبيب آخر ، فحضر الطّبيب و قام من جديد بمعاينته و فحصه ثمّ طمأنهم هو الآخر على صحّته وطلب منهم أن يكتفوا بنفس الدّواء الذي أحضره معه وأن يوفروا له الجو المريح الهادئ وأنه سيتعافى في غضون أيّام قليلة . ودّع مصطفى الجميع و وعدهم بزيارة صديقه من حين لآخر و عاد في نفس السيّارة التي جاء فيها بعدما شكره الحاج منصور و أبناءه على ما قام به من كرم و مروءة اتجاه ابنهم ................................. أمضت الحاجّة ميمونة أم عبد المجيد الليل بأكمله عند رأس ابنها ساهرة لم يغمض لها جفن ،و هي قلقة على فلذة كبدها ،و قد و ضعت بجانبها و عاء به ماء و أمسكت بيدها على قطعة قماش كانت تبلّلها و تمسح بها على و جهه تارة و تضعها على جبينه تارة أخرى ،بينما شرع أبوه الحاج منصور يدخل تارة و يخرج تارة أخرى ،و هو يقلّب كفيه و يهلهل و يحوقل و بينما هو يحاول الخروج من الغرفة سمع صوت ابنه فالتفت فإذا به قد مدّ ذراعيه و فتح يديه وراح ينظر ناحية الباب كمن يخاطب بعيدا و هو يقول:<<لا..لا تذهبي و تتركينني و حيدا..و فاء عودي إليّ حبيبتي .. أنا لم أخنك و لا تخلّيت عنك .. أبي هو السّبب ..هو الذي و قف في طريق سعادتنا ..هو الذي قتلني و.. >>. فأسرعت إليه أمه و أمسكت بيديه محاولة إعادته إلى مكانه و هي تبسمل و تقول:<<استرح يا ولدي، و حاول أن تنام أنا الوحيدة التي تعرف سبب مرضك الذي عجز الأطباء في تشخيصه .. سامح الله الذين ظلموك يا ولدي..>>. فقال الحاج منصور :<<هو ماذا يقول .. ؟ و من هي وفاء هذه التي يتحدّث عنها..؟ >>. فقالت له :<<إنّه يهذي يا رجل ..و وفاء هي البنت التي رفضت تزويجه منها..أنت السّبب يا حاج فيما لحق بابننا ..لقد أوردته حتفه بسبب عنادك و إصرارك على فرض رأيك .. وياما حذّرتك و نبّهتك من أنّ أبناءنا يعيشون في زمن غير زماننا وبيئة غير بيئتنا، فشتّان ما بين الأمس و اليوم من بون شاسع .. و اللّه و اللّه لإن حدث لا قدّر اللّه شيء لابني لن أبقى معك أبدا..>>. فقال الحاج منصور:<<بالله عليك يا أمّ عبد المجيد اسكتي، ولا تزيدي أنت الأخرى من همّي و غمّي .. كفاني ما أنا فيه يا امرأة . و الله لو كان بإمكاني إصلاح ما فات ما توانيت للحظة ،و لذهبت الآن قبل الغد إلى أهلها وخطبتها له، و لكن سبق السيف العذل، فقد تزوّجت و صارت في عصمة رجل آخر >>.فال هذا و قد بلغ منه التأثر مبلغا عظيما ، و أخذ يعضّ على سبّابته من شدّة النّدم مما فرط منه اتجاه فلذة كبده،و اغرورقت عيناه بالدّموع ، و أسرع بالخروج علّه يلحق دمعة كانت على وشك السّقوط و يخفيها قبل أن تراها زوجته، و هو الذي كان يظن أنّ الرّجال لا يبكون. بدأت بوادر الشّفاء تلوح على و جه عبد المجيد من يوم لآخر، و قد ساعده في ذلك ما كان يراه من التفاف إخوانه و ذويه من حوله، و إلى تلك الزّيّارات المتكرّرة من قِبل أصدقاءه و أحبّاءه، و التي كانت تخفّف بعض آلامه و تنسيه همومه. و كان أكثرهم زيّارة له صديقه مصطفى ،المعروف بطيبة قلبه، و سموّ أخلاقه و تديّنه، و ابتعاده عن كلّ ما يخدش الحياء .و لذلك كان يطلب منه دائما أن يستعين الصّبر و التّضرع إلى الله تعالى و الإلتجاء إليه في كلّ صغيرة و كبيرة، حتى أنّه في إحدى زياراته قال له:<<أنت الآن بحمد الله و حسن توفيقه قد أصبحت على أحسن ما يرام، و صرت قادرا المشي و الحركة و هاهو ذا المسجد قريب منك، فما رأيك في أن نذهب إليه سويا فنصلي فيه بضعة ركعات ،و نستريح في رحابه قليلا ،و هناك يمكنك أن تدعو الله ليأخذ بيدك و يرفع عنك ما قد ألمّ بك، و ينزع من قلبك حبّ هذه المرأة الذي كاد يودي بحياتك..>>. و جد هذا العرض قبولا من نفس علاء الدين .فغيّر ملابسه و ذهب رفقة صديقه إلى المسجد، فكان لا يمرّ في طريقه على جماعة إلا هبوا له واقفين مرحبين مهنّئين وألسنتهم لا تكف عن الدّعاء و التّضرّع إلى الله أن يمنحه صحّة جديدة وسلامة دائمة. ذلك جزاء حسن معاملته لإخوانه و جيرانه خاصّة و أبناء حيّة و جميع الخلق عامّة .تلك هي سنّة الحياة علّمتنا أنّ حبّ النّاس لنا ليس سلعة تباع وتشترى و إنّما نكسبه و نتحصل عليه بالأخلاق الفاضلة و المعاملة الصالحة. ما أن و صلا إلى المسجد حتى استقبل علاء الدين القبلة و كلّه خشوع و خضوع و سكينة، و صلى ركعتين ثمّ سلّم و بقي جالسا في مكانه و قال و هو رافع يديه إلى السّماء حتى بان بياَض إبطيه والدّمع يتقاطر على خدّيه :<<يا ألله ..يا من تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور .. يا ربّ المستضعفين، ويا نصير المظلومين..هؤلاء أهلي و صحبي قد طلبوا منّي أن أدعوك لتنزع حبّ وفاء من قلبي .. اللهمّ انّك لتعلم أنّنا ما عصيناك طرفة عين ،و لارتكبنا منكرا ،و لا اجترحنا فاحشة .. اللّهم لا تنزع من قلبي حبّها و حبّ من يحبها و اجعله يجري في كلّ عرق من عروقي ،و في كلّ قطرة من دمي و في كلّ نفس من أنفاسي.. اللهم اجعل خيالها لا يفارق ذهني و صورتها لا تغادر عيني، و طيفها لا يفارق منامي..خلقت عبادك يا رب ليعطف كبيرهم على صغيرهم ، و يرحم قويّهم ضعيفهم ، و يحبّون بعضهم بعضا ،فكيف أتجرّأ وأطلب منك أن تنزع حبّ الناس من قلبي ، و تضع في مكانه الكره و المقت لعبادك.. اللّهم يامن ألجمت أفواه الأسود و أخضعتها لنبيك دانيال، و ألنت الحديد لنبيك داوود ليّن قلب زوجها و عطّفه عليها حتى لا تُظلَم عنده و لا تقهر ، و اغرس حبّها في قلب كلّ من عرفها ،و اغمسها في بحر من السّعادة و الأمن ،و لاتجعل الشّقاء يعرف إلى قلبها الطيّب منفذا أو مدخلا فإنّك قريب مجيب الدّعوات >>. كان مصطفى يجلس على مقربة منه فسمع كلّ ما قاله فتعجّب من ذلك غاية العجب ،و صبر حتى خرجا من المسجد ثمّ اقترب من صديقه و أمسك بيده و قال له :<< لقد سمعتك تقول كلاما و الله لو أنّك ذكرته على الحجر الصلد لتفتّت و صار غبارا تذروه الرّياح ،و إنّني لأستسمحك عذرا لما بدر منّي آنفا من قول ،و ما ذاك إلاّ لقلّة تجربتي و جهلي بأحوال المحبّين و عظيم معاناتهم >>. قال هذا ثمّ واصلا طريقهما إلى الدّار . أما مصطفى فسافر في نفس اليوم بينما تبعه علاء الدين من بعد يومين والتحق بعمله . ....................... جلس الحاج منصور بعد سفر ولده يفكّر و يدبّر ،علّه يجد و سيلة يخرج بها ابنه من محنته،فهداه تفكيره إلى الإسراع في تزويجه،ظنا منه أنّ الزّواج قد ينسيه ما هو فيه، و ربّما قد تفلح الزّوجة فيما أخفق هو فيه ،فتؤنس وحشته و تشغل و و حدته، و قد تدخل قلبه و تستحوذ عليه ،و تطرد ساكنيه ،و ربّما أنجبت له أبناء يشغلونه عن نفسه، فينسى ماضيه المؤلم.و ما أن استقرّ رأيه على هذه الفكرة حتى أسرع إلى زوجته الحاجة ميمونة ليطلعها على ما اعتزمه ، فوافقته على رأيه و طلبت منه الإسراع في تنفيذه،و بقيا ينتظران عودة إبنهما على أحرّ من الجمر .و هكذا ما أن عاد إلى البيت حتى أخبرته أمه بما اعتزمه والده من أمر تزويجه ،فتنهد و قال: <<لا رأي لمن لا يطاع..أنا طوع أمركما يا أمي فافعلا ما بدا لكما >>.فهرولت إلى زوجها و أخبرته برضاه و موافقته على الزّواج . كطائر جريح مكسور الحناحين استسلم للأمر الواقع، و رضخ لإرادة و الده ،و تزوّج بإحدى بنات عمّه تدعى سمية. فتاة في مقتبل عمرها وريعان شبابها ،وكانت على جانب عظيم من الحسن و الجمال ،تتّصف بخفّة روحها و حلاوة منطقها ،وكريم أخلاقها و رجاحة عقلها ،رغم صغر سنّها و عدم تجربتها لمعترك الحياة، مع ما كانت تتمتّع به من فطنة و ذكاء،و ميل إلى المزاح و حبّ الدّعابة ،و ترويض للنّفس على توقير الكبار و الحنوّ على الصّغار،مما جعلها تأسر الألباب و تحتلّ مكانة عظيمة في قلوب الذين عرفوها، فأحبّوها من صميم قلوبهم ،و تمنّوا لها كلّ الخير . لم تكن سميّة تجهل ابن عمّها، و لا كانت في حاجة لمن يحدّثها عن خلاله الكريمة، و سجاياه الحميدة،لأنّهما ينتميان إلى أسرة الحاج منصور ،حيث جمعت بينهما رابطة الدّم ، و براءة الطّفولة و عفويتها، و صارا شريكين في الماء و الهواء، و المأكل و المركب، حتى إذا بلغا مرحلة الشّباب عيّن كلّ واحد منهما هدفه و اتّبع دربه. استيقضت سمية يوما على غير عادتها و أمعنت التفكير فيما قد طرأ عليها .إنّه أوّل أحلامها يرتسم في مخيّلتها و يسيطر على كيانها ،إنّها أوّل نبضة من نبضات فلبها، أشبه ما تكون برنّة جرس إنذار يعلن حدوث سرقة ،إلاّ أنّه اليوم يعلن تسلّل زائر لطيف، يسرق القلوب لا النّقود. و عرفت سارق القلوب إنّه ابن عمّها عبد المجيد ،و مالت إليه ميلان الزّهرة لاستقبال النّحلة :أن هلمي،خذي الرحيق، خذي الطّلع،واصنعي عسلا و شهدا . مسكينة هي سميّة،ياما حاولت لفت انتباه ابن عمّها إلى ما تكنّه له من حبّ و مودّة ،علّه يخمد لهب نيران فؤادها،بكلمة عذبة،أو ابتسامة حلوة. لكنّه لم يعرها انتباها،و لا بادلها شعورا و لا إحساسا، ذلك لأنّ سارق القلوب زارته سارقة القلوب، و تربعت على عرش قلبه و استولت عليه.و شاع خبر حبه،و بلغ أذنيها،فصُدمت للوهلة الأولى ، و تأوّهت تأوه طفل طار عصفوره من قبضته، فكتمت أمرها، و خبّأت سرّها في قلبها .و تمثّلت بقول الشاعر :
لقد أسمعت لو ناديت حيّ و لكن لا حياة لمن تنادي لذلك عندما خطبت لعبد المجيد لاقى هذا العرض موافقة و قبولا في نفسها،و رضيت بنصيبها و ملأت الفرحة فؤادها،و ما كان ينغّص عيها فرحتها هذه إلاّ ما كانت تعلمه عنه من حبّه لمرأة أخرى،مما جعلها تشعر بالغيرة و الحسد، و تلك هي عادة المرأة في متل هذه الحال،إلاّ أنّها رضيت بأن تمضي بقيّة حياتها بجانب من تحبّه، و تعيش في كنفه، و تنعم بقربه.المهمّ أنّها تعرف أنّه لن يظلمها أو يحطّ من شأنها و الأهمّ من كلّ هذا أن تسعده و تسهر على راحته، حتى و إن لم يشعر بها يوما،فالحبّ عطاء و ليس أخذا . أخيرا زفّت سميّة لعبد المجيد ،و عاشت معه،فأحسن صحبتها و اهتم بجميع شؤونها،و سهر إسعادها فكان لها الأب الرؤوف و الأمّ الحنون و الأخ الرفيق .و اهتمت هي من جانبها به و بكلّ شؤونه، و ابتعدت عن كلّ تصرّف قد يغضبه، أو قول يجرحه،إلاّ أنّها لم تتخلّ عن حسن دعابتها و مزاحها،مما جعله يسرّ لحديثها و يبتسم لها .فتسعد لذلك ،و ترضى بالنّزر القليل الذي سرقته في لجظة غفلة منه . ............ يتبع ان شاء الله | |
|